خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 26 من ربيع الآخر 1445هـ الموافق 10 /11 / 2023م
رِعَايَةُ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ وَأَهْلِهِ
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيماً كَثِيرًا، )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ( [آل عمران:102]، )يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا( [النساء:1]، )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا( [الأحزاب:70-71].
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كَلَامُ اللهِ تَعَالَى، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أَيُّهَا الْـمُسْلِمُونَ:
لَقَدْ أَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقُرْآنَ الْكَرِيمَ هِدَايَةً لِلنَّاسِ مِنَ الْغَوَايَةِ، وَسِرَاجًا لَهُمْ مِنَ الضَّلَالَةِ، وَنُورًا لَهُمْ مِنَ الظُّلْمَةِ، وَنَجَاةً لَهُمْ مِنَ الْهَلَاكِ، وَشِفَاءً لِمَا فِي الصُّدُورِ، وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ؛ قَالَ سُبْحَانَهُ: )إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا( [الإسراء:9]، فِيهِ الدُّرَرُ وَالْأَحْكَامُ، وَالْحِكَمُ وَالنُّورُ التَّـامُّ، فِيهِ نَبَأُ مَا كَانَ قَبْلَكُمْ، وَخَبَرُ مَا بَعْدَكُمْ، وَحُكْمُ مَا بَيْنَكُمْ، وَهُوَ الْفَصْلُ لَيْسَ بِالْهَزْلِ، مَنْ تَرَكَهُ مِنْ جَبَّارٍ قَصَمَهُ اللهُ، وَمَنِ ابْتَغَى الْهُدَى فِي غَيْرِهِ أَضَلَّهُ اللهُ، وَهُوَ حَبْلُ اللهِ الْمَتِينُ، وَالذِّكْرُ الْحَكِيمُ، وَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ، الَّذِي لَا تَزِيغُ بِهِ الْأَهْوَاءُ، وَلَا تَلْتَبِسُ بِهِ الْأَلْسِنَةُ، وَلَا يَشْبَعُ مِنْهُ الْعُلَمَاءُ، وَلَا يَخْلَقُ عَلَى كَثْرَةِ الرَّدِّ وَلَا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ، هُوَ الَّذِي لَمْ تَنْتَهِ الْجِنُّ إِذْ سَمِعَتْهُ حَتَّى قَالُوا: ) إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ( [الجن:1-2]، مَنْ قَالَ بِهِ صَدَقَ، وَمَنْ عَمِلَ بِهِ أُجِرَ، وَمَنْ حَكَمَ بِهِ عَدَلَ، وَمَنْ دَعَا إِلَيْهِ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، وَهُوَ الْقَوْلُ الْحَسَنُ وَالْأَحْسَنُ؛ قَالَ سُبْحَانَهُ: )الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ( [الزمر:18].
عِبَادَ اللهِ:
إنَّ مِنْ أَعْظَمِ الْمَقَاصِدِ الَّتِي أَنْزَلَ اللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْقُرْآنَ الْكَرِيمَ مِنْ أَجْلِهَا: تَدَبُّرَ كَلَامِهِ؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى )كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ( [ص:29]. وَتَدَبُّرُ الْقُرْآنِ يَعْنِي: التَّفَكُّرَ فِيهِ وفِي مَعَانِيهِ لِلِانْتِفَاعِ بِهِ خَيْرَ انْتفَاعٍ، وجَنْيِ فَوَائِدِهِ، وَاغْتِنَامِ عَوَائِدِهِ، وَاسْتِنْبَاطِ أَحْكَامِهِ، وَمَعْرِفَةِ حِكَمِهِ، وَاسْتِخْرَاجِ دُرَرِهِ، فَالْآيَاتُ صَرِيحَةٌ فِي بَيَانِ الْحِكْمَةِ الَّتِي مِنْ أَجْلِهَا أُنْزِلَ الْقُرْآنُ؛ أَلَا وَهِيَ التَّدَبُّرُ والتَّذَكُّرُ وَالِاتِّبَاعُ؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ) وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ( [الأنعام: 155].
وَيُرْجَـعُ فِي تَدَبُّرِ الْقُرْآنِ إِلَى أَهْلِ الشَّأْنِ وَالْفَنِّ كَمَا هُوَ الْحَالُ فِي سَائِرِ الْعُلُومِ وَالْمَعَارِفِ وَالْفُنُونِ، فَيُرْجَعُ إِلَى الْعُلَمَاءِ الرَّبَّانِيِّينَ وَالْأَعْلَامِ الرَّاسِخِينَ، الَّذِينَ رَسَخَتْ أَقْدَامُهُمْ وَدَقَّتْ أَفْهَامُهُمْ وَشَهِدَتْ لَهُمُ الْأُمَّةُ بِالْعِلْمِ وَالْفَهْمِ ؛ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ ؛ كَعَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَمُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ وَالضَّحَّاكِ، وَالْبَغَوِيِّ وَابْنِ الْقَيِّمِ وَابْنِ كَثِيرٍ وَسِوَاهُمْ مِنْ أَئِمَّةِ الْعِلْمِ وَالْفَهْمِ وَالتَّدَبُّرِ؛ إِذْ لَيْسَ مِنَ الْعَدْلِ وَالْإِنْصَافِ أَنْ يَعْتَمِدَ كُلُّ امْرِئٍ مِنَ النَّاسِ عَلَى مُجَرَّدِ عَقْلِهِ وَفَهْمِهِ دُونَ مُرَاعَاةٍ لِلْأُصُولِ وَالْقَوَاعِدِ فِي فَهْمِ كِتَابِ اللهِ وَحُسْنِ تَدَبُّرِهِ.
إِخْوَةَ الإِيمَانِ:
وَقَدْ أَثْنَى اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ عَلَى مَنْ تَدَبَّرَ الْقُرْآنَ، وَتَأَثَّرَ بِتِلَاوَتِهِ؛ فَخَافَ قَلْبُهُ وَخَشَعَتْ جَوَارِحُهُ؛ قَالَ تَعَالَى: )إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ( [الأنفال: 2]. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ، إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَحَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ» وَرَوَى النَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ لِلَّهِ أَهْلِينَ مِنَ النَّاسِ، قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ: مَنْ هُمْ؟ قَالَ: هُمْ أَهْلُ الْقُرْآنِ، أَهْلُ اللَّهِ وَخَاصَّتُهُ». وَحَذَّرَ مِنْ هَجْرِهِ وَتَرْكِ الْعَمَلِ بِهِ؛ رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَالْأُتْرُجَّةِ طَعْمُهَا طَيِّبٌ وَرِيحُهَا طَيِّبٌ ، وَالَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَالتَّمْرَةِ طَعْمُهَا طَيِّبٌ وَلَا رِيحَ لَهَا، وَمَثَلُ الْفَاجِرِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ الرَّيْحَانَةِ رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا مُرٌّ، وَمَثَلُ الْفَاجِرِ الَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ الْحَنْظَلَةِ طَعْمُهَا مُرٌّ وَلَا رِيحَ لَهَا».
فَالتَّدَبُّرُ لَهُ الْأَثَرُ الْعَظِيمُ وَالْبَالِغُ فِي رِقَّةِ الْقَلْبِ وَخَشْيَتِهِ وَإِقْبَالِهِ عَلَى اللهِ جَلَّ وَعَلَا؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: )لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ( [الحشر:21] .
أَيُّهَا الْـمُسْلِمُونَ:
لَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشَدَّ الْعِبَادِ تَأَثُّرًا بِالْقُرْآنِ إِذَا قَرَأَهُ أَوْ قُرِئَ عَلَيْهِ؛ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ لِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :«اقْرَأْ عَلَيَّ» قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ: آقْرَأُ عَلَيْكَ وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ؟ قَالَ: «نَعَمْ» فَقَرَأْتُ سُورَةَ النِّسَاءِ حَتَّى أَتَيْتُ إِلَى هَذِهِ الْآيَةِ: )فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا ( قَالَ: «حَسْبُكَ الْآنَ» فَالْتَفَتُّ إِلَيْهِ فَإِذَا عَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ [مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ]، وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الشِّخِّيرِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: «أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُصَلِّي وَلِجَوْفِهِ أَزِيزٌ كَأَزِيزِ الْمِرْجَلِ» [رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ]، أَيْ: غَلَيَانٌ كَغَلَيَانِ الْقِدْرِ، يَعْنِي: يَبْكِي. وَكَذَا كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -وَرَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ- وَمِنْهُمْ: أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ وَعُمَرُ الْفَارُوقُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، قَالَ اللهُ تَعَالَى: )اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ( [الزمر:23]. فَطُوبَى لِأَهْلِ الْقُرْآنِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَهُ تِلَاوَةً وَتَدَبُّـرًا، وَيَتَدَارَسُونَهُ تَعَلُّماً وَتَفَكُّرًا، وَحَفِظُوهُ لَفْظاً وَفَهِمُوهُ مَعْنًى، وَتَعَلَّمُوهُ صِدْقاً وَإِتْقَاناً، وَعَلَّمُوهُ إِخْلَاصاً وَإِحْسَاناً، طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ. وَكَيْفَ لَا؟! وَالْقُرْآنُ مَأْدُبَةُ اللهِ، وَسَبَبٌ طَرَفُهُ بِيَدِ اللهِ، لَا يَضِلُّ مَنِ اسْتَمْسَكَ بِهِ وَاهْتَدَى، وَلَا يَهْلِكُ مَنِ اتَّبَعَهُ أَبَدًا؛ عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْخُزَاعِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «أَبْشِرُوا وَأَبْشِرُوا؛ أَلَيْسَ تَشْهَدُونَ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ»؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: «فَإِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ سَبَبٌ طَرَفُهُ بِيَدِ اللَّهِ، وَطَرَفُهُ بِأَيْدِيكُمْ، فَتَمَسَّكُوا بِهِ؛ فَإِنَّكُمْ لَنْ تَضِلُّوا وَلَنْ تَهْلَكُوا بَعْدَهُ أَبَدًا» [رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ].
أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ الْعَظِيمَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ، فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، الَّذِي خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا، وَأَشْهَدُ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ تَعَالَى عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
أَمَّا بَعْدُ: فَأُوصِىكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ؛ فَهِيَ وَصِيَّتُهُ لِلْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، فَمَنِ اتَّقَاهُ وَقَاهُ، وَمَنْ تَوَكَّلَ عَلَيْهِ كَفَاهُ.
عِبَادَ اللهِ:
إِنَّ لِهَذَا الْكِتَابِ الْعَظِيمِ الْمُعْجِزَةِ الْخَالِدَةِ الْبَاقِيَةِ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ: أَجْرًا عَظِيماً لِمَنْ قَرَأَهُ وَتَلَاهُ، وَحَفِظَهُ وَتَوَلَّاهُ، وَتَعَلَّمَهُ وَعَلَّمَهُ؛ فَفَضْلُهُ الْفَضْلُ الَّذِي لَا يَعْدِلُهُ شَيْءٌ، وَأَجْرُهُ الْأَجْرُ الَّذِي لَا يَبْلُغُهُ حَدٌّ؛ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ، وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، لَا أَقُولُ: )الم( حَرْفٌ، وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ، وَلَامٌ حَرْفٌ، وَمِيمٌ حَرْفٌ» [رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ].
وَبِحِفْظِ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى يَتَنَافَسُ الْمُتَنَافِسُونَ الْعُظَمَاءُ، وَبِحَمْلِهِ يَرْتَقِي الْأَفْذَاذُ الْكُرَمَاءُ، فَهُوَ تَاجُ الْوَقَارِ، وَخَيْرُ الْأَسْفَارِ، وَأَحْسَنُ الْأَخْبَارِ، لَا غِبْطَةَ فِي شَيْءٍ بِمِثْلِ الْغِبْطَةِ فِـيمَنْ آتَاهُ اللهُ القُرْآنَ؛ فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ فَهُوَ يَتْلُوهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَهُوَ يُنْفِقُهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ».
وَيَنْبَغِي لِمَنْ حَفِظَهُ أَنْ يَتَعَاهَدَهُ بِالْمُرَاجَعَةِ وَالِاسْتِذْكَارِ، وَالتِّلَاوَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ، وَخَيْـرُ مُعِينٍ عَلَى هَذِهِ الْقُرُبَاتِ: قِيَامُ اللَّيْلِ بِهِ وَنَوَافِلُ الطَّاعَاتِ؛ فَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّمَا مَثَلُ صَاحِبِ الْقُرْآنِ كَمَثَلِ صَاحِبِ الْإِبِلِ الْمُعَقَّلَةِ (أَيِ: الْمَشْدُودَةِ بِالْعِقَالِ)، إِنْ عَاهَدَ عَلَيْهَا (أَيْ: تَرَدَّدَ عَلَيْهَا) أَمْسَكَهَا، وَإِنْ أَطْلَقَهَا ذَهَبَتْ» [رَوَاهُ الشَّيْخَانِ].
عِبَادَ اللهِ: لَقَدْ تَمَيَّزَتْ دَوْلَةُ الْكُوَيْتِ بِإِنْشَاءِ مَرَاكِزِ تَعْلِيمِ وَتَحْفِيظِ وَطِبَاعَةِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، وَإِقَامَةِ مُسَابَقَةِ جَائِزَةِ الْكُوَيْتِ الدَّوْلِيَّةِ لِحِفْظِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ وَقِرَاءَتِهِ وَتَجْوِيدِ تِلَاوَتِهِ؛ وَإِنَّمَا تُقِيمُ هَذَهِ الْمُسَابَقَةَ وَزَارَةُ الْأَوْقَافِ وَالشُّؤُونِ الْإِسْلَامِيَّةِ فِي دَوْلَةِ الْكُوَيْتِ لِتَشْجِيع أَبْنَائِنَا حَفَظَةِ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ فِي كُلِّ عَامٍ تَحْتَ رِعَايَةِ وَاهْتِمَامِ سُمُوِّ الْأَمِيرِ حَفِظَهُ اللهُ تَعَالَى؛ دَافِعُهُمْ فِي ذَلِكَ تَنْشِئَةُ جِيلٍ يَحْمِلُ الْقُرْآنَ وَيَكُونُ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَفِي هَذِهِ الْأَيَّامِ نَشْهَدُ تَنَافُسَ كَثِيرٍ مِنَ الْحُفَّاظِ لِكِتَابِ اللهِ تَعَالَى قَدِمُوا مِنْ كُلِّ أَرْجَاءِ الْعَالَمِ إِلَى دَوْلَةِ الْكُوَيْتِ بِأَصْوَاتِهِمُ النَّدِيَّةِ وَتِلَاوَاتِهِمُ الشَّجِيَّـةِ، مَعَ حِفْظٍ مَتِينٍ لِكِتَابِ اللهِ تَعَالَى. وَفَّقَ اللهُ الْجَمِيعَ وَسَدَّدَ خُطَاهُمْ.
اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ وَبَارِكْ عَلَى عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنِ الْأَرْبَعَةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، وَالْأَئِمَّةِ الْحُنَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ: أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ، وَعَنْ سَائِرِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِينَ، اللَّهُمَّ اجْعَلِ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ رَبِيعَ قُلُوبِنَا، وَنُورَ صُدُورِنَا، وَجَلَاءَ أَحْزَانِنَا، اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِمَّنْ يُحِلُّونَ حَلَالَهُ، وَيُحَرِّمُونَ حَرَامَهُ، وَاجْعَلْهُ حُجَّةً لَنَا، اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِالْيَهُودِ الْغَاصِبِينَ، وَانْتَقِمْ مِنَ الصَّهَايِنَةِ الْمُجْرِمِينَ، وَرُدَّ الْأَقْصَى الْجَرِيحَ إِلَى حَوْزَةِ الْمُسْلِمِينَ، اللَّهُمَّ كُنْ لِأَهْلِنَا فِي فِلَسْطِينَ نَاصِرًا وَمُعِينًا، احْقِنْ دِمَاءَهُمْ وَاحْفَظْ أَعْرَاضَهُمْ، وَأَيِّدْهُمْ بِتَأْيِيدٍ مِنْ عِنْدِكَ، وَرُدَّ كَيْدَ أَعْدَائِهِمْ فِي نُحُورِهِمْ، اللَّهُمَّ وَفِّقْ أَمِيرَنَا وَوَلِيَّ عَهْدِهِ وَوُلَاةَ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ لِمَا تُحِبُّ وَتَرْضَى، وَاجْمَعْ كَلِمَتَهُمْ عَلَى الْحَقِّ وَالتَّقْوَى، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَاهْدِهِمْ سُبُلَ السَّلَامِ، وَانْفَعْ بِهِمُ الْبِلَادَ وَالْعِبَادَ، اللَّهُمَّ وَاجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً مُطْمَئِنًّا، سَخَاءً رَخَاءً، دَارَ عَدْلٍ وَإِيمَانٍ، وَأَمْنٍ وَأَمَانٍ، وَسَائِرَ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ؛ الْأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْأَمْوَاتِ، إِنَّكَ سَمِيعٌ قَرِيبٌ مُجِيبُ الدَّعَوَاتِ.
لجنة إعداد الخطبة النموذجية لصلاة الجمعة